قبل أسبوع حدثتكم عن حكاية الصحفي الذي تحول بائعا للكتب. اليوم أحدثكم عن بائع الكتب وخطابات أشرطة الكاسيت. أحكي لكم عن ياسمين وحسن.
حكاية ياسمين وحسن
“هجرة مش ههاجر”. ارتفع صوت ياسمين في رسالتها المسجلة على شريط الكاسيت وهى تحكي بألم:
“بلدي وحشتني، مع إنى قبل ما أسافر أمريكا ماكانش عاجبني أي حاجة في مصر، لا نظام تعليم ولا شوارع ولا أي حاجة”.
أغلقت المسجل وأخرجت الشريط متأملا تلك الرحلة، كُتب على الغلاف الخارجي بقلم حبر وخط منمق، إلى أخي الحبيب حسين، وأخي الحبيب هانئ، تاريخ التسجيل مارس 1993.
عشقي للجوابات التي أعثر عليها في السوق أو حتى منسية بين طيات الكتب التي أشتريها لم يتوقف عند الخطابات الورقية فقط، بل امتد ليشمل أشرطة الكاسيت، وسيلة الاتصال الأشهر التي عرفها المصريون مع ظهور الكاسيت في السبعينات. لكن، كالعادة لم أخرج باحثًا عن أشرطة الكاسيت أو حتى الخطابات الورقية، كانوا هم من يعثرون علي!
اقرأ أيضا:
سامح فايز يحكي: حكاية ميلاد بائع كتب وقع في غرام الجوابات القديمة
عبد الله جوهر.. الطريق لسوق الكتب
في زيارتي الثانية للسوق بائعًا للكتب تعرفت إلى عبد الله جوهر، صاحب الفضل في تعريفي بالسوق وعالم الكتب، رآني أجلس في ممر مقهى صهللة بشارع 26 يوليو ألتفت ولا أفعل شيئا؛ فالكتب التي أعرضها للبيع على بروفايلي الشخصي بمنصة فيس بوك لا يُباع منها سوى القليل، وتسليم ذلك القليل المباع للحاجزين لا يحتاج إلا لساعة واحدة، وبقية اليوم أجلس متفرجًا!
أشار عبد الله إلى الكتاب أمامي: “شكلك مهتم بالروايات”.
أجبت: “أحبها”.
سحب كرسيا واقترب من طاولتي وعرف نفسه:
“الخزانة الجوهرية، دا اسم صفحتي لبيع الكتب، واسمي عبد الله جوهر، من الشرقية بلد العظماء. درست في جامعة الأزهر وحبيت تجارة الكتب وأنا طالب في الكلية”.
تخوفت في البداية من عبد الله، أحمل في قلبي خوفًا من الغرباء في العموم، زاد الخوف عندما تخلى عني أصدقاء عرفتهم لسنوات لمجرد أنني كتبت مجموعة مقالات سببت جدلا. الخوف حق مشروع، واجتناب الصراعات المجانية مسألة لا أرفضها، لكنهم أصدقائي، أو بمعنى أدق، كانوا أهلي!
بمرور الوقت اقتربت أكثر من عبد الله، وزادت المحبة عندما اشتريت منه خطابات الحب بين الصحفي علي وحبيبته من القرية؛ دون أن يدري أعادتني الخطابات إلى نفسي من جديد، وبدأت في الاهتمام بعالم تجارة الكتب بشكل أكبر.
لم تعد مكتبتي كافية فقط للاعتماد عليها في عروض البيع، هنا بدأت في التوسع بالشراء والبيع من السوق، والبحث عن مخازن بيع الكتب المنتشرة في ضواحي القاهرة، بين بشتيل وإمبابة والمرج ومؤسسة الزكاة ومصر القديمة والبساتين وأسواق الجمعة والتونسي!
رآني صاحب دكان لقطع غيار السيارات وأنا أحمل كل يوم أشولة الكتب وأصعد بها إلى شقتي في الدور السادس، ثم يراني يوم السبت وأنا أحملها من السادس إلى خارج العمارة في طريقي إلى سوق الكتب، وفي يوم استوقفني قائلا:
“ما تاخدلك محل يابني، حرام عليك صحتك”.
أجبت:
“أخاف مقدرش على إيجاره”.
ظلت نصيحة صاحب الدكان في ذهني، حتى مرت أشهر وأنا أحمل أشولة الكتب صعودا وهبوطا من الطابق السادس إلى الشارع والعكس، إلى أن جاء الفرج. “محل سامي بتاع البقالة فاضي دلوقت لو تحب اعتبره بتاعك”. لم أصدق جاري وهو يدعمني في تلك الخطوة؛ فأنا جديد في السكن، ومعرفتي بالجيران هنا بدأت قبل عام فقط!
رحلة مع أشرطة الكاسيت
انتهت رحلة حمل الأشولة يوميا من وإلى الطابق السادس بتأجيري للدكان، وأصبحت أملك مخزنا أضع فيه الكتب، وفي أحد أركانه وضعت مسجلا كنت اشتريته من سوق ديانا، وبدأت في الاستماع إلى أشرطة الكاسيت، الأغنيات أحيانا، وخطابات الغرباء مثلي أحيانا أخرى. هؤلاء الذين تركوا وطنهم وهاجروا للعمل خارج مصر، ومعهم بدأت رحلتي!
“بتعيش في الحتة اللي ليك فيها أصحابك وقرايبك وحبايبك. وأنا بصراحة مش عايزة أتعرف على أمريكان.. هم ناس لطاف وكل حاجة لكن أتعرف عليهم لأ، مش عايزة”.
أنهت ياسمين حديثها إلى أخيها حسين، وكأنها تحكيني. عرفت ياسمين وزوجها حسن بعد شرائي المئات من أشرطة الكاسيت القديمة من سوق الجمعة بمنطقة مقابر الإمام الشافعي، وفي مخزن الكتب استمعت إليهم تباعا وأنا أنظم عملي داخل المخزن، ومن بين أشرطة الكاسيت التي تنوعت بين الغناء والتواشيح والقرآن عثرت على خطابات ياسمين وحسن!
استمعت إليهم واحدا تلو الآخر، حتى كانت الدهشة التي أخذتني. تحمل الخطابات مشاعر مقاتل في حرب أكتوبر 1973 قرر السفر مع أسرته في أوائل التسعينات باحثا عن مصدر رزقه في قارة أخرى، وهناك اصطدم بالثقافة المغايرة، وأخذ يشكوا همه إلى الأهل في مصر عن صعوبة التعايش مع تلك الثقافة الغريبة عنه كمسلم وعربي شرقي، لكنه في النهاية لا يرفضها، بل يحترم اختياراتهم بالكامل، اعتراضه فقط أنه في تلك الرحلة خسر أخاه الذي التهمته نداهة أمريكا، مقررا التخلي عن العادات والتقاليد الشرقية لصالح الإغواء الأمريكي!
العائلة من الأب والأم وطفلين هاجروا إلى أمريكا عام 1993 بحثا عن حياة أفضل، الزوج يظهر من حديثه أنه عمل بالجيش المصري، لكن لا يظهر تحديدا هل كان جنديا أم موظفا مدنيا في مؤسسة تابعة للجيش؛ لأنه يتحدث كثيرا في تسجيلاته عن أوراقه الحكومية وطلب الإجازة وتجديدها، والزوجة تدرس الأدب الإنجليزي في واحدة من جامعات القاهرة، لكنهما قررا ترك كل شيء خلفهما والسفر إلى أمريكا ربما وجدا هناك عالما أفضل! بيد أن ذلك الحلم انتهى سريعا بموقف ياسمين، “هجرة مش ههاجر”. قالتها ساخطة وهى تسجل خطابا لأسرتها؛ اشتاقت إليهم رغم مرور أكثر من عام على حضورهم إلى أمريكا، لكنها فسّرت حالتها بكل بساطة،” بتعيش في الحتة اللي ليك فيها أصحابك وقرايبك وحبايبك”.
عثرات في طريق بائع الكتب
في سوق الكتب لم يكن من أصحاب أو أحباب، على الأقل في البدايات؛ فأغلب التجار يخشون الوافد الجديد، عرفوا سريعا أنه صحفي أو كان، وأنه حضر إليهم هربا من المشاكل التي سببتها مقالاته عن صناعة النشر والكتب، وهم أيضا تجار كتب. واشتهر عن ذلك الصحفي أنه يشي بالناس حتى يقبض عليهم! حتى أن صحفيا معروف نوعا ما كان يمر بالتجار في السوق ويطلب منهم ألا يشتروا مني ولا يبيعوا.
حضر عبد الله جوهر في أحد الأيام يقول:
“فيه صحفي زميلك ماشي يخوف الناس في السوق منك”.
ضحكت قائلا:
“خاف مني أحسن أحبسك”.
رغم سخافة الموقف إلا أنني ضحكت، لم أضحك منذ مدة، والآن عدت للسخرية على حالي كما كنت أفعل سابقا. لم أخش السخرية على الرغم مما سببته لي من ضرر، فأصدقاء الأمس استخدموا سخريتي ضدي كأنه واقع.
هدأت نفسي قليلا أنني عدت إلى سابق عهدي، أسخر من كل شيء، وأي شيء، مهما كان مؤلما، أحسست براحة أنني اندمجت في عالم سوق الكتب وأصبح لي بينهم أحباب، هكذا قالت ياسمين في خطابها من أمريكا إلى الأهل في مصر: “هنكون مبسوطين لما نعيش في الحتة اللى لينا فيها أحباب وأصحاب”.
قطع صوت رنين الهاتف اندماجي مع المسجل وخطابات ياسمين وحسن، أجبت: “ألو…”. جاء الرد: “سامح الحقني، أنا مع بنتك في المستشفى”. توقف عقلي لحظة، ثم استجمعت نفسي سريعا، أغلقت دكان الكتب وجريت في الشارع ثم توقفت، لا أملك مالا في جيبي، لا أملك مالا في بيتي!
(يتبع)
جميل جذا ياسامح استمر في هذه الحكايات ذات الطابع الانساني والثقافي
شرفتني والله يادكتور بالتعليق