في غرفة صغيرة بمدرسة قديمة بمنطقة كليركونويل في لندن، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وتحديدا عام 1978، بدأت حكاية شابة عراقية مع عالم المعمار، حين اتخذت من تلك الغرفة الصغيرة مكتبا لها تبدأ من خلاله عملها الخاص كمعمارية، ذلك العالم الصعب الذي لم يعتد على وجود النساء فيه، فما بالك بشابة ومن الشرق الأوسط! ولكن خلال سنوات ستصبح هذه الشابة إحدى العلامات المميزة في تاريخ هذا العالم.
إنها زها حديد التي أبهرت خلال سنوات دراستها معلميها بتصميماتها، ولغم ذلك لم يكن متوقعًا أبدًا أن تكون -وهي ابنة الشرق الأوسط- واحدة من أهم المعماريين في العالم. وذلك لعدة أسباب؛ ففضلا عن التحيز النوعي في أحد المجالات المحسوبة على الذكور، وعن أصولها العرقية العربية، إلا أن تصميماتها كان يُنظر لها على أنها “غير قابلة للتطبيق” كما أنها باهظة الثمن، حتى أُطلق عليها لقب «سيدة الورق» فتصميماتها على براعتها كانت لا تغادره.
سيدة الورق
في الوقت الذي كان فيه جميع المعماريين في بريطانيا تحت سطوة أمير ويلز الذي كان منحازًا لتوسعات الرقعة الخضراء على حساب المعمار، وكان جميعهم يستخدمون الطوب والبلاط في البناء وتزيين واجهات البنايات، لم تكن زها حديد لديها ما تفعله حيال ذلك، فاكتفت بأن تخرج إبداعاتها على الورق، فتدفقت الرسومات من قلمها كالفيضان، لتنتج تصميمات تغير بشكل كامل في المستقبل النظرة للمعمار ومفهومه، ولم تلتفت أبدا للذين لم يفهموها أو أولئك الذين اعتبروا عملها صعبًا ولن يتحقق حتى وإن كان ممكنًا هندسيًا.
نتائج تلك المرحلة كانت سلسلة من اللوحات الضخمة التي تشير إلى ما يكن أن تنفذه المعمارية العراقية الشابة إذا ما أتيحت لها الفرصة، وكانت الرسومات تعبر عن مناظر طبيعية حادة نوعًا ما أكثر منها إلى مبانٍ.
وتشير صحيفة الجارديان إلى أن حديد توصلت إلى تلك الأفكار جراء تأثرها برسومات الفنان الروسي كازيمير ماليفيتش الذي اكتشفته حين كانت طالبة والذي منحها طرقًا جديدة لتخيل كيف يمكن أن يتفاعل الفضاء.
أشهر تلك التصميمات ما فاز في مسابقة دولية لتصميم منتجع the peak بهونج كونج والذي أشيع أنه غير قابل للبناء إلا أن السبب الحقيقي هو أن المالك لم يكن معه المال الكافي حيث إن تكلفته باهظة. وعلي الرغم من أنه عادة ما تكون التصميمات التي لم تكتمل أكثر من تلك التي بُنيت بالفعل لدي معظم المهندسين المعماريين، فإنه في حالة زها كانت تلك بداية لانتقاد ثابت ولاذع لها خاصة مع تكرار هذا الحادث في عدة أبنية أخرى.
البداية
المعمارية العراقية زها حديد ولدت في بغداد عام 1950 لعائلة عريقة بالموصل؛ فوالدها هو محمد حديد من أشهر السياسيين والاقتصاديين بالعراق، درست بالعراق حتى أنهت دراستها الثانوية، عاشت طفولتها خلال السنوات الذهبية القصيرة للعراق الحديث، حيث قررت الحكومة الحاكمة آنذاك استخدام الحصة الوطنية المتزايدة من أموال البترول لجلب رواد الهندسة المعمارية الحديثة، مثل فرانك لويد رايت، لو كوربوزييه، أوسكار نيمير، ووالتر غروبيوس، لتحديث مدينة بغداد، كما كان والدا زها ليبراليين قاما بتشجيع فضولها واستقلاليتها ما ساهم في بناء شخصيتها القوية والواثقة، حيث أظهرت أول علامة لها في سن الحادية عشرة عندما قررت أنها تريد أن تصبح مهندسة معمارية.
درست الرياضيات بالجامعة الأمريكية ببيروت لتنتقل بعدها لدراسة الهندسة المعمارية في الجمعية المعمارية بلندن “AA” أو “Architectural Association” والتي كان يعرف عنها بأنها مكان للحالمين والمبدعين الذين يستطيعون أن يخرجوا إبداعاتهم بعيدا عن المناخ المعماري القاتم الذي كان منتشرا آنذاك، كان رئيس الجمعية هو ألفين بويارسكي الذي اعتبرته حديد واحدا من أهم معلميها الذين تأثرت بهم خلال مسيرتها، كذلك أستاذاها ريم كولاس وإليا زنجليس والتي عملت لديهما من خلال مكتب OMA حتي أنشأت مكتبها الخاص عام 1978.
أول التصميمات
وبالرغم من براعة “ملكة الانحناءات” التي لم يختلف عليها أحد فإنها لم تستطع أن تنفذ تصميمها الأول بشروطها الخاصة إلا في عامها الـ44 بعدما منحها رولف فيلباوم صاحب شركة أثاث فيترا الفرصة لتصميم مبني للإطفاء حسب المعايير التي وضعتها حديد في “ويل إم راين”، وهو مبنى صغير على الحدود الألمانية مع سويسرا، لإيواء محرك الإطفاء التابع للشركة.
وقد كان المبني عبارة عن تكوين ديناميكي يعتمد على شظايا حادة من الخرسانة، ولكن عندما تم حل فرقة الإطفاء من الشركة تم تحويل وظيفة المبنى ليصبح جزءا من متحف الشركة وهذا ما أدى إلى انتشار قصة غير دقيقة مفادها أن شكل المبني جعله غير عملي.
وعلي مدار سنوات عمل زها صاحبتها تلك الانتقادات، فالمشروع التالي لمحطة الإطفاء كان “أوبرا كارديف باي” بلندن والذي كان من المتوقع أن يصبح مشروعا مذهلا حيث فاز على 400 تصميم آخر في مسابقة دولية عام 1994، لكنها لم يتم الحصول على الدعم المادي اللازم لتنفيذه على أرض الواقع.
تلاه مركز روزينتال للفن المعاصر بولاية أوهايو بالولايات المتحدة والذي تم تنفيذه بالفعل على الطريقة التفكيكية التي لم تكن منتشرة في ذلك الوقت، ما عرضها لموجة انتقادات شديدة والتي لم تكف بالرغم من نجاح إنشاءاتها ودعم الكثيرين لها. لكنها في أحد لقاءاتها قالت إن رحلة نجاحها كانت بمثابة “كفاحا طويلا”. مضيفة أنها كانت تتعرض للانتقاد بقسوة لمجرد أنها امرأة في مجال يسيطر عليه الرجال.
لكن حديد كانت تتمتع بشخصية استثنائية قوية وشجاعة حتي إن البعض وصفها بالـ”صعبة” لكن هذا جعلها تتخطى كل تلك الانتقادات والهجوم عليها.
ثورة المعمار
أحدثت حديد ثورة معمارية لا يمكن إنكارها، كانت تميل في تصميماتها إلى التجريب، فلم تستسلم أبدا للقيود العملية التي كان يجب أن تلتزم بها في بداية عملها، فتميل تصميماتها إلى التعقيد من الناحية الهيكلية، لكنها نجحت في الترويج لجماليات الهندسة المعمارية وخلق مبان يستمتع الناس بالنظر إليها وليس فقط الاستفادة منها.
استطاعت خلال 20 عاما تقريبا أن تبني عددا كبيرا من أهم المباني في العالم، فعند وفاتها عن عمر ناهز الـ65 عاما كان لديها إنشاءات في 44 دولة حول العالم منهم بريطانيا والصين والمكسيك وأمريكا وروسيا والشرق الأوسط، ولعل من أهم المباني التي بنتها المركز الأوليمبي للألعاب المائية في لندن، ومتحف Maxxi للفنون في روما الذي استغرق بناءه قرابة الـ12 عاما إلا أنه بالنهاية حاز على جائزة ستيرلينج في عام 2010، ومصنع للسيارات بألمانيا، ومجمع ناطحات السحاب في بكين، دار الأوبرا فى الصين وغيرهم.
نوبل المعمار
في عام 2004 فازت حديد بجائزة بريتزكر للهندسة المعمارية وهي جائزة رفيعة تعادل في قيمتها جائزة نوبل في الهندسة، وهي السيدة الأولي التي تفوز بها، كذلك كانت أول سيدة تحصل على الميدالية الذهبية الملكية RIBA، وقامت الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا بمنحها لقب “سيدة” بناءً على منجزها المعماري بأكمله، وهو اللقب الأرفع الذي تمنحه الملكة.
بمرور الوقت أصبحت بنايات حديد أقل حدة وأكثر انسيابية وكثيرا ما تتخذ شكلا يشبه الزئبق المسكوب، لهذا لقبت بـ”ملكة الانحناءات”، وذلك لكثرة الانحناءات المذهلة التي تتمتع بها أبنيتها.
ربما جزءا من هذا التغيير جاء كانعكاس للتطور التكنولوجي الكبير في صناعة البناء المعماري، فما يمكن لتلك التكنولوجيا أن تنفذه في السنوات الأخيرة كان مستحيلا في بداية عهدها، فهي تعتبر من الجيل الأخير الذي يعتمد علي الورق والرصاص في تصميماته، لذلك يعكس إنتاجها المعماري التغير في معالم المعمار، فكانت من الأوائل الذين بدأوا الهندسة المعمارية الحديثة، وكانت أول من أدخلت المساحات الكبيرة إلى بكين عن طريق مجمع ناطحات السحاب.
بلا تمييز
لم تكن زها حديد تهتم بوصفها “مهندسة معمارية” أو “مهندسة عربية” لكنها كانت تفضل أن يتم التعامل معها بعيدا عن التمييز النوعي أو العرقي الذي عانت منه لسنوات، وهو ما جعلها بكل النجاح الذي حصدته نموذجاً ملهماً لكل النساء سواء المعماريات أو غيرهن، فلها إسهامات في مجالات متنوعة بجانب المعمار، منها المجال الأكاديمي الذي التحقت به في أوائل حياتها العملية حيث عملت كمعيدة وتدرجت في المناصب الأكاديمية حتى أصبحت أستاذا زائرا في عدد من الجامعات.
كل من تقرب من حديد يعرف أنها شخصية مرحة وصديقة مخلصة للمقربين لها، كما أن لها ذوقا خاصة بها سواء في طريقة حياتها أو ملبسها وربما كان هذا هو السبب في إسهاماتها، كالشراكة مع توكيل جورج جينسين الشهير لصناعة الحلي الفضية وأنتجت مجموعة فريدة من المجوهرات مكونة من 8 قطع مختلفة معتمدة علي الإضاءة وعلى الأسلوب الفريد الذي اعتمدته زها، وتعاونت كذلك مع عدة توكيلات أخرى اظهرت من خلالها ذوقا مميزا ورفيعا.
اختارت مجلة التايم زها حديد ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم عام 2010، وهو ما كان دفعة كبيرة لها. وهو ما أوضحته في مقابلة لها عام 2012 حيث قالت “إن النظرة من المؤسسة إلى المعماريات تغيرت منذ ذلك الحين كما تغيرت النظرة للمرأة ذاتها، فالقيمة اليوم في الاختلاف ذاته”.
توضح ديسبينا ستراتيجاكوس، أستاذة مشاركة ورئيسة مؤقتة للهندسة المعمارية في جامعة ولاية نيويورك ومؤلفة كتاب “أين هن النساء المعماريات؟” في أعقاب وفاة زها: “بعد وفاة حديد، فقدنا نموذجًا يحتذى به في مجال به عدد قليل من النساء، هذا لا يعني أنه لا يوجد عدد كبير من النساء المنجزات والملهمات في الهندسة المعمارية، لكن لم تحقق أي منهن شهرة حديد، تماما مثل عدد قليل من المهندسين الذكور. ”
أكثر صراحة
في السنوات الأخيرة لها، أصبحت “ملكة الانحناءات” أكثر صراحةً بشأن التحديات المهنية التي اضطرت للتعامل معها كامرأة، ففي مقابلة لها عام 2013، أخبرت Business Insider أنها واجهت “سلوكًا كارها للنساء بشدة” في لندن أكثر من أي مكان آخر في أوروبا. وأضافت: “أنا غير أوروبية، ولا أمارس مهنتي بالطريقة التقليدية، كما أني امرأة، من ناحية، قد تبدو كل هذه الأشياء تسهل الأمور نوعا ما لكن في الحقيقة إنها تجعلها صعبة للغاية”.
فمن ضمن الحملات التي شنت ضدها كانت ادعاء مارتن فيلر في مجلة newyork review of books عام 2014 بأن الكثير من العمال قد ماتوا بسبب ظروف العمل القاسية لحديد أثناء عملها في استاد قطر، كان اتهاما غريبا اضطر كل من الكاتب والمجلة للتراجع عنه عندما تم التأكد من أن العمل في الموقع لم يكن قد بدأ بعد!
قالت زها حديد عند تسلمها للجائزة “يجب أن أشعر الآن بأني جزء من المؤسسة، لم أكن أشعر بذلك فدائما ما كنت مستبعدة من دوائر العمل والشبكات التي يسيطر عليها الرجال واجتماعاتهم بنوادي الجولف لكن لا بأس بأن أكون على الحافة”.
حديد كما وصفتها الإندبندنت “لم تكن مجرد امرأة في صناعة يسيطر عليها الرجال، لكن شخصًا ملونًا في حقل أبيض”، ففي تصريحات لـ”إيفا جيتشينا”، الرئيسة السابقة للجمعية المعمارية في لندن، تقول إنها لا تعتقد أن هناك رجلا يمكنه منافسة حديد سواء على المستوى المهني أو الإنساني.
ما حققته السيدة زها حديد تخطى التفوق المعماري وأصبح انتصارا لدور المرأة، فهي أعادت النظرة إلى النساء وقدرتهن علي التحقق حتى في المجالات التي يغلب عليها الرجال، بل والتفوق عليهم، فلطالما وصفها أستاذها كولاس “إنها كوكب مستقل يدور في مداره الفريد”.