أحدث الحكايا

منير عتيبة يحكي: فريدة فهمي.. فراشة تراقص الروح

كنت في الصف الخامس الابتدائي عندما أعلنت أبلة ناهد؛ السمراء الرشيقة، أستاذة الألعاب، أن المدرسة ولأول مرة ستنظم حفلًا كبيرًا في الجرن المجاور لها، بمناسبة عيد الأم، سيتضمن فقرات عديدة منها أوبريت غنائي راقص به عدة رقصات مثل:

البنت بيضا بيضا بيضا

ورقصة:

عطشان تعال اشرب

وكذلك:

فدادين خمسة خمس فدادين

تقدمت ضمن آخرين من الصبيان والبنات الذين يريدون القيام ببطولة الأوبريت، كنت واثقًا من النتيجة، فأنا ولا فخر؛ محمود رضا! وأسعدني اختيار أبلة ناهد لسهير أجمل بنات الفصل لترقص أمامي.

لم أكن أملّ من مشاهدة فيلمي “غرام في الكرنك” و”أجازة نص السنة”، كنت مفتونًا بفريدة فهمي.

فريدة في “غرام في الكرنك”

غذاء الروح

في ذلك الوقت لم أكن أركز في الراقصات والرقصات التي لا يخلو منها فيلم عربي، منتظرًا انتهاء الرقصة لأستمتع بمشهد أكشن أو كوميدي، ولا تهمني القبلة الأخيرة بين البطل والبطلة التي اعتدنا أن تكون نهاية معظم الأفلام. في مرحلة سنية تالية كنت أركز أكثر على ما كنت أهمله من قبل، لكنني في المرحلتين لم يتغير إحساسي بفريدة فهمي. ربما كانت الوحيدة التي أشعر أنها من عائلتي، ملامحها وابتسامتها يمكن أن تكون لإحدى خالاتي أو عماتي أو بناتهن، لم تكن ممثلة عظيمة في رأيي، لكنها كانت كائنًا يدخل القلب دون حاجة إلى طرق بابه.

في أحد استعراضات فرقة رضا

كراقصة؛ لم تشعل خيالي المراهق أبدًا، لكنها كانت تغذي جانبًا في روحي لا أعرف ما هو بالضبط، فقط كنت أستمتع بقدرتها الهائلة على أن تحلق بجسدها في عوالم أخرى لا يمكن لراقصة غيرها أن تصل إليها، ربما مواظبتي على مشاهدة برنامج “فن الباليه” جعلتني أحب فريدة فهمي أكثر، فهي تجمع ببساطة عجيبة بين هذا الفن الغربي وفن الرقص المصري الشعبي، وتضيف إليهما معًا شيئًا يخصها وحدها، نحسه، وإن كان يصعب على التفسير.

بعد كل فيلم من أفلامها؛ أنطلق إلى الحقول في قريتي الصغيرة، أعواد البرسيم معتدة بخضرتها التي تظن أنها ستدوم إلى الأبد، القمح متفاخر بذهبه البراق لا يعلم أن السنوات ستمر ولن يكون له مكان بين مكعبات الإسمنت القاتمة التي ستجعل بلدتي الرحيبة أسوأ من أوتوبيس مزدحم.

بين الحقول

بين الحقول كان سهلًا أن أصبح محمود رضا، فقد حفظت كل حركاته، أدور حول نفسي، أفرد ذراعي وأطير في الهواء، وكان سهلًا أن أستحضر فريدة فهمي لتشاركني الرقص. عندما أسير الآن في الشوارع المزدحمة بالبيوت الخانقة؛ يعاودني ذلك الإحساس القديم بالسمو وهي ترقص معي بين الحقول المنتشية بالفرح، فتعينني على تحمل الواقع.

عندما حاول الأشرار التخلص من إسماعيل ياسين بإدخاله البوليس الحربي ليجبروا زوجته في الفيلم فريدة فهمي على أن ترقص في الكباريه؛ لم أكره الأشرار، بل تضايقت من إسماعيل ياسين الذي يريد أن يحبس فريدة في المطبخ لتخدمه هو وابنه الشقي ياسين، ويحرمني من رؤية رقصة جديدة لها أعيد تنفيذها معها بين الحقول.

مع إسماعيل ياسين وابنه ياسين في “إسماعيل ياسين بوليس سري”

دور باهت

كممثلة؛ كان دورها باهتًا في فيلم “جميلة”، قامت بدور الراقصة الفرنسية (سيمون) التي تساعد الثوار الجزائريين، لكنني شعرت بالغيرة عليها من صلاح ذو الفقار الذي كانت تفعل ذلك من أجله، وحرص عقلي على أن ينسى هذا الدور، أما دورها في فيلم “الأخ الكبير” فلم يكن أقل بَهَتانًا؛ ولم تلمع كممثلة في فيلم “حرامي الورقة” أيضًا، والأفلام الأخرى التي شاركت فيها مثل “أسياد وعبيد”، و”ساحر النساء”، و”فتى أحلامي”، و”غريبة”، كانت تقوم فيها بالرقص فقط إضافة إلى جملتين أو ثلاث في بعض الأحيان. وهذا أسعدني، فلا أريد أن أذكرها إلا وهي ترقص.

فريدة بين محمود وعلي رضا

 

 

في البداية كنت أغار من محمود رضا، لكنني عندما عرفت أنه أخو زوجها، وزوج أختها نديدة فهمي، وأن زوجها هو مخرج الفيلم، شعرت بالراحة، فمحمود رضا ليس غريمًا لي، وأخوه علي رضا يقف بعيدًا خلف الكاميرا، ولن يضايقه أن أراقص فريدة مراقصة روحية يصبح الجسد فيها سفينة تمخر عباب المعاني، أو جسرًا تمر عليه المشاعر السامية إلى آفاق غير محدودة.

ليست مثلهن

وقتها كنت أكتب الشعر بكثرة، وأعرف معنى أن تخطر فكرة ببالك، وتتحول الفكرة إلى كلمات، والكلمات إلى جُمل، فيصبح المعنى ملموسًا. لكنني لم أستطع فك شفرات ذلك الإلهام الذي يوحي برقصة، كيف يتخيل مصمم الرقصات حركة الجسد، وكيف يعطي لهذه الحركة معنى؟! لم أفهم إلا بعد وقت طويل؛ عندما قرأت مذكرات محمود رضا، وعرفت أن المسألة ليست إلهامًا بالمعنى الرومانسي، إنه عمل وفكر وجهد دؤوب، لقد جاب محمود رضا مصر شرقًا وغربًا يتعرف إلى رقصاتها، ثم يستفيد منها في تصميم رقصاته، لتعبر عن روح شعب وعن إنسان عصري، كما كانت فريدة فهمي مثقفة فنيًا وليست مجرد موهبة فطرية، وهو ما منحها تلك القدرة على فهم الجسد وتطويعه ليعبَّر بأبلغ المعاني، وليعْبر بالروح إلى سموها المنشود.

الدكتور حسن فهمي والد فريدة فهمي

وهي ليست مثل الراقصات اللاتي احترفن الرقص لأنهن لم يكن أمامهن خيار آخر، فهي ابنة د. حسن فهمي أستاذ هندسة ميكانيكية في كلية الهندسة، جامعة القاهرة، ووالدتها سيدة إنجليزية أسلمت واتخذت اسم “خديجة”، وحصلت فريدة على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية، والدكتوراه في الرقص الإيقاعي من الولايات المتحدة الأمريكية، وشاركت مع زوجها وأخيه في تأسيس فرقة رضا التي كانت فرقة عائلية بامتياز، وكما يقول طارق الشناوي: “كان هناك اقتراح من الشقيقين على ومحمود أن يطلقا على الفرقة اسم “فرقة رضا وفهمي للفنون الشعبية”، ولكن حسن فهمى وجد أن اسم “رضا” يكفي”.

صورة أسطورية

شاركتْ في تصميم الأزياء في عدة أفلام، وهي الموهبة التي ورثتها عن أمها التي قامت بتنفيذ ملابس فرقة رضا في بدايتها. وكانت فريدة من الذكاء بحيث تعتزل الرقص وهي في الثالثة والأربعين من عمرها، لتظل صورتها الأسطورية في ذهني دون تغيير.

ربما لا يطاوعني جسدي الآن إذا فكرت أن أجرب نفس الحركات التي كنت أقوم بها صغيرًا متمثلًا محمود رضا، لكنني لا أزال أشعر بالفرحة ذاتها، وبالسمو ذاته، عندما يستعيد خيالي تلك اللحظات، وتستعيد أذني تصفيق الطلاب والمدرسين وأولياء الأمور لي في نهاية الأوبريت، وأنا أحييهم مع زميلتي سهير التي لم أنتبه إليها إلا في النهاية، فطوال الوقت كانت ترقص معي فريدة فهمي.

عن منير عتيبة

روائي وقاص وكاتب للأطفال والدراما الإذاعية، مؤسس ومدير مختر السرديات بمكتبة الإسكندرية، رئيس تحرير سلسلة كراسات سردية التي يصدرها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، مقرر لجنة السرد القصصي والروائي بالمجلس الأعلى للثقافة، عضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة (2013 - 2019)، وقد حصل على العديد من الجوائز منها جائزة اتحاد الكتاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *