قررت أن أبدأ رحلتي في تقديم الأدب الروسي المعاصر من عتبة ليف نيكالايفيتش تالستوي. لم يكن ذلك اختياراً عفوياً، بل قراراً فنياً مقصوداً؛ فالقارئ العربي يعرف تالستوي ويجد في اسمه يقيناً مألوفاً، ومن هنا جاءت فكرة كتابي الأول: «ورثة تالستوي على جسر كوزنيتسكي». البداية من الكلاسيكي تمنح جسراً آمناً نحو الحديث، وتتيح أن أقدّم الأصوات الجديدة بوصفها امتداداً لذلك التراث العظيم.
لكن هاجسي الأكبر كان: ماذا لو لم يجد القارئ في هؤلاء الورثة ما اعتاده من الرواية الروسية الكلاسيكية؟ ماذا لو لم يصادف الراوي العليم المعلّم، ولا الأحكام الأخلاقية الجاهزة، بل واجه بدلاً من ذلك عوالم قلقة، وشخصيات مشوشة، وأصواتاً متمردة تطرح الأسئلة أكثر مما تقدّم الأجوبة؟ كنت مدركاً أن هذه النقلة قد تُربك القارئ، لكنها في الوقت نفسه الطريق الوحيد لعبور الأدب الروسي الحديث إلى وجداننا.
لذلك جمعت في هذا الكتاب مقالاتي المنشورة وغير المنشورة، وحرصت أن أستند أولاً إلى النقد الأوروبي، لأمنح القارئ مدخلاً مألوفاً، قبل أن أعبر به تدريجياً إلى النقد الروسي والسوفيتي، حيث تقف الأصوات الجديدة بكل حدتها وتجريبها. وهكذا تعرّف القارئ العربي إلى أسماء لامعة مثل تاتيانا تالستايا، لودميلا أوليتسكايا، دينا روبينا، جوزيل ياخينا، وسفيتلانا أليكسيفيتش وبيتروشيفسكايا ودينيس جوتسكو، وإلى أصوات أكثر تمرّداً مثل فيكتور بيليفين، زاخار بريليبين، فلاديمير ساروكين، ميخائيل شيشكين، وباريس أكونين.
إنها أصوات تثبت أن الأدب الروسي لم يتوقف عند الكلاسيكيات، بل يواصل ترثه الرفيع، متجدداً، حياً، وقادراً على ملامسة أسئلتنا الإنسانية الكبرى بعمق لا يشيخ.