عاش ابن قلاقس في القرن السادس الهجري زمن الخلافة العباسية، وهو سكندريُّ النشأة والتكوين، ولذا هو ابن البحر والطَّبيعة في شِعره، وقد ركب البحرَ كثيرًا، وتوجَّه عبره إلى صقلية -وكان له فيها أصدقاء يكاتبهم ويكاتبونه-، واليمن وكان له رسائلُ كثيرةٌ مع عددٍ من الأمراء منهم عبد النبي بن مهدي صاحب زبيد: وكان طوَّافًا بين زبيد وعدن، إذْ كان كثيرَ الترحال، فقد سافر إلى جزيرة صقلية في سنة 563 هـجرية، وكان كثير التردُّد على ميناء عيذاب المطل على البحر الأحمر، وفي 565 هـجرية أبحر إلى مدينة عدن باليمن، وكانت تربطه صلاتٌ وثيقةٌ مع عددٍ من أمراء وحُكَّام اليمن، ومع رحلة العودة ارتطمت سفينته بصخرة قُرب إحدى جُزر البحر الأحمر، فخسر جزءًا من تجارته وأُتلِفَ بعضُ شِعْره، فأسعفه سلطان دهلك، ومكثَ هناك مدَّة من الزَّمن (اتخذ بعض الخلفاء المسلمين دهلك منفًى للمغضُوب عليهم كنوعٍ من العقاب وبالذات الشُّعراء الذين عرفوا في شِعْرهم بالمجون والتشبيب بالنساء.
كما أنَّ هذا الأرخبيل أصبح في إحدى المراحل مركزًا للقراصنة، ومن أشهر من نُفي إليها الشَّاعر عمر بن أبي ربيعة (644 ميلادية / 23 هـجرية – 711ميلادية / 93 هـجرية) الذي تطرَّق إلى العديد من النساء في شِعره وتعرَّض لهن، وحيث ضاق بعبثه الخليفة عمر بن عبد العزيز ثامن الخلفاء الأمويين (61 – 101 هـجرية / 681 – 720 ميلادية) نفاه إلى جزيرة دهلك جنوبي البحر الأحمر حتى مات هناك سنة 711ميلادية.
وأرخبيل دهلك، هو مجموعة جُزُر تقعُ في البحر الأحمر بالقرب من مصْوَع، في إريتريا، ويحتوي على جزيرتين كبيرتين ومئة وأربعٍ وعشرين جزيرةً صغيرةً، واشتهر الأرخبيل بصيد اللؤلؤ منذ العُصُور الرومانية ولا يزال ينتجُ عددًا كبيرًا من اللالئ. ويوجدُ أربعُ جزرٍ فقط مأهولة بالسكان، وهي دهلك الكبير وهي أكبر جزيرة وأكثرها سكانًا، ونهلق، وتشتهر الجزيرتان بصيد اللؤلؤ منذ أيام الرومان، وما زالتا تنتجان كمياتٍ كبيرةً منه).
- الغوص لصيد اللؤل
وكانت قد ارتطمت السفينةُ التي تبحرُ بابن قلاقس بصخرة في جزيرة “نُخْرة” بضمِّ النُّون وسُكُون الخاء (وسماها ابن خلكان جزيرة الناموس؟) قرب دهلك. (قال ياقوت: ويُقال له دهيك أيضًا، وهو مرسى في جزيرة بين بلاد اليمن والحبشة) فتبدَّد “ثلثا” ما معه من فلفل وبقَّم (هو جنس من النباتات يتبع الفصيلة البقولية من رتبة الفوليات) وسواهما. وأسعفه سلطان دهلك “مالِك بن أبي السداد” بالطعام والملابس، له ولرجاله، وأنزله عنده. واستكتبه في منتصف جمادي الآخر (566) رسالة إلى “السيد عبد النبي بن مهدي” صاحب زبيد، ورسالة أخرى (غير مؤرخة) إلى “القاسم بن الغانم بن وهاس الحسني صاحب بلاد عثر، بين الحجاز واليمن” وكتب هو، في غرة رجب 566 إلى “أبي بكر العيدي” الوزير بعدن، اثنتي عشرة صفحة صغيرة، هذه فقراتٌ منها:
“من جانب الصخرة، بنُخْرة.. وشوقي يكاثر الفلفل المُبدَّد في السواحل، والبقَّم المفرق في المراحل.. ما زالت تترامى بنا الأفواج والأمواج، حتى استأثرت. بأموالنا وآمالنا. نعم، قد سلم الثلث، والثلث كثير، وحصلنا بجزيرة دهلك، والسلطان المالك ابن أَبي السَّدَاد.. ساعدني بالبَز (البَزُّ: نوع من الثِّياب) والبُرِّ (حبُّ القمح).. ووثقت منه بوعد في خروجي هذه السنة عند عود رسوله من بر العرب”.
ثم يحدثه ببعض الأخبار:
“ووردت كتب مضمنة جملة من الأخبار المصرية، منها أن السلطان الأجل صلاح الدين. غزا غزّة من بلاد الفرنج خذلهم الله، وكسر، وأسر، وعاد غانما والحمد للَّه، ورفع المكوس، وجعل دار الشحنة بمصر مدرسة للعلم”.
ثم يخبره بنجاة أشياء (لعلها هدايا) كان قد سلَّمها إليه، ويذكُرُ بعضها ويقول:
“وحصر ذلك يستدعي زمانًا، وبيانًا، وبنانًا، ولسانًا، وجنانًا، وإمكانًا، وهذيانًا، فالعذر في تركه واضح “ ويقول: “كانت معي كتُب كتَب البحر عليها المحو، فلا شعر ولا لغة ولا نحو، لم يسلم سوى ديوان شعر ابن الهبارية، بعد أخذه من البلل. ضاع شِعْري كله، وانحط عن متن نظري فيه كله (أي ثقله) فقد كنتُ لا أخلو من إصلاح فاسد، ومداراة حاسد. “
ويخبره بأنه بدأ بنظم قصيدة فيه، مطلعها: “وشى بسرك عرف الريح حين سرى”، وأنه نظم قصيدة في “السُّلطان المالك” أولها: “قفا فاسألا مني جفونًا وأضلعا”.
وكتب إليه في رسالة أخرى، يشكو طول الإقامة بدهلك، ويقولُ:
“ولولا أن يعثر القلم لجرى وجرّ، وسرى وما سرّ، فقد امتلأت المسامع بسوف، وعلمت المطامع أنها بوادي عوف، وكنتُ أمنعُ بيعَ الشِّعْر في زمن أقلّ ما يتشارى فيه بالذهب، فصرتُ أصرفُهُ بالبخس. نعم نزلتُ على أم العنبر، فلعنتُ البحر مع البر”.
ثم يقولُ:
“تسلفتُ من التجار بزا. واشتريتُ به من العبيد، وعوَّلتُ على قطع البيد، إلى زبيد. وأدخل من هناك إلى عدن”وقد فعل. وهذه قصة غرقه، كتبها بقلمه، وانتفى بها زعم المؤرخين جميعا بأنه “غرق جميع ما كان معه وعاد إلى أبي الفرج – ياسر بن بلال المحمدي – وهو عريان”.
.