أحدث الحكايا

د. سارة حواس تحكي: ماريا زاتورينسكا.. الشاعرة التي فتحت باب هجرة الأدباء الروس إلى أمريكا

“كاتبة من الطراز القديم”.. هذا أول ما يحضر في ذهن القارىء فور قراءته الأولى شعر ماريا زاتورينسكا، فكتاباتها الشعرية تعكس تأثرها الكبير بالحركة الشعرية الإنجليزية التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فما هي حكاية هذه الشاعرة الأمريكية ذات الأصول الروسية التي فتحت باب هجرة الأدباء الروس إلى الولايات المتحدة الأمريكية؟

هي شاعرة ماهرة تتقن فنون الشعر باحترافية واستطاعت أن تعبر بشعرها وكتاباتها بسلاسة وعذوبة واضحة إلى النجاح والتفرُّد غير عائبة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي كانت تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت؛ حيث كانت تنتمي إلى مدرسة فكرية شعارها: “الحياة لا بد أن تستمر”، برغم الاختبارات والمحن.

الشاعرة الروسية ماريا زاتورينسكا

هجرة وزواج

ماريا زاتورينسكا شاعرة روسية أمريكية ولدت في كييڤ بروسيا عام ١٩٠٢ وفي عام ١٩١٠ هاجرت مع عائلتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ضمن موجة الهجرة من أوروبا السائدة حينها، وأصبحت مواطنة أمريكية في غضون سنتين من إقامتها، وبرغم اشتغالها في سن صغيرة بالعمل في مصنع خياطة لتحسين ظروف المعيشة.

كانت لديها إرادة عظيمة للتعلُّم، فكانت تذهب إلى مدرستها في فترة مسائية وأثبتت جدارتها وامتيازها الدراسي فحصلت على منحة دراسية في جامعة ڤالبارايسو بإنديانا عام ١٩٢٢، ثم انتقلت بعد ذلك إلى جامعة ويسكونسن – ماديسون للحصول على درجة علمية في علم المكتبات، والتقت هناك زوجها الشاعر والناقد الأدبي والصحفي والمترجم الأمريكي هوراس جريجوري (Horace Gregory) (١٨٩٨-١٩٨٢)، الحائز على جائزة بولينجن (The Bollingen Prize).

تأثرت ماريا كثيرا بنجاح وتفرُّد زوجها وساعدها في إثبات ذاتها بوصفها شاعرة وأنتجت نحو ثمانية دواوين شعرية، فأطلقت ديوانها الأول “العتبة والموقد” (Threhold and Hearth) في عام ١٩٣٤، وحازت بعد ذلك على جائزة البوليتزر عن كتابها “سماء النهار البارد” (Cold Morning Sky) عام ١٩٣٨، كما اشتركت الشاعرة النشيطة ماريا في تحرير ستة مختارات شعرية مختلفة وواحد منها كان للشاعرة الأمريكية الشهيرة كريستينا روسيتي (Christina Rossetti (١٨٣٠-١٨٩٤) عام ١٩٧٠، التي كنتُ قد ترجمت لها ثلاث قصائد من قبل.

كتاب سماء النهار البارد

 

نُشرت أعمال ماريا في جرائد شهيرة مثل جريدة نيويورك تايمز وقدمت العديد من المساهمات في المجلةالشعرية “Poetry Magazine” وحازت على العديد من الجوائز: جائزة شيلي (Shelley) وجائزة چون ريد (John Reed).

ماريا زاتورينسكا كانت لها شعبية كبيرة في الأوساط الأدبية حيث عبَّرت الكاتبة والشاعرة الأمريكية الشهيرة إريكا چونج ( Erica Jong) ١٩٤٢ عن إعجابها وانبهارها بشعر ماريا قائلة: “انضموا إليَّ للاحتفاء بالسعادة والإلهام في عملها الخالد”. توفيت ماريا عام ١٩٨٢عن تسعةٍ وسبعين عاما إثر إصابتها بسكتة قلبية.

ماريا زاتورينسكا

مزيج من الغرابة والجمال

“شعرها هو إضافة الغرابة إلى الجمال”، هكذا وصف أحد قراء ماريا زاتورينسكا قصائدها الشعرية، إذْ لها رؤيتها الخاصة في أمور الحياة حتى العادية منها، فلها نظرة تأملية خاصة تميزها عن غيرها من المبدعين والمبدعات، نظرة حالمة رومانسية ذات مذاق فلسفي حزين، كما كانت ترسم أجواء قصائدها الشعرية بريشة فنان فأبدعت في وصف السماء والبرد والبحر والثلج والمطر والطبيعة. كما لو أنها ترسم لوحة ملأى بشخصيات أسطورية حالمة بألوان طبيعية كالأخضر والأزرق التي ذكرتها في قصيدة “الأماكن” (Places)، فكما يُبدع الرسَّام بفرشاته وألوانه، ترسم ماريا بكلماتها وتنحت قصيدتها بصور طبيعية ربَّانية حتى تجعل قراءها يسرحون بمخيلتهم نحو لوحاتها الخاصة.

ديوان The hidden waterfall للشاعرة ماريا زاتورينسكا

 

شعر ماريا تقليدي في الشكل والقافية، فالكثير من قصائدها الشعرية كانت عبارة عن رباعيات أي تنقسم كل فقرة إلى أربعة سطور فقط، وهذا أيضًا من الأشكال البنائية القديمة في الشعر وبخاصة الإنجليزي، ومعظم قصائدها عن شخصية رومانسية غامضة اعتزلت العاطفة وفضَّلت العزلة أو عن حبيب مفقود أو ميت، واهتمامها بمثل هذه النوعية من الشخصيات نابع من اختياراتها لموضوعات كتاباتها النثرية.

قصائد الفقد

الفقد إحدى تيمات ماريا في قصائدها الشعرية، والفقد عندها ليس مقتصرا على فقد الحبيب فحسب بل فقد الوطن والبراءة والشباب والفرح أيضا، فكان لديها موهبة التقاط الصور الازدواجية لخبرات الإنسان أي أنها تتقن رسم صور واضحة لخبرات وتجارب الإنسان المختلفة كالموت والولادة والفرح والتعاسة والفقد والاستمتاع بالطبيعة والحياة، كما أن لديها حسًّا غنائيًّا يضفي على قصائدها البساطة ويخفف من وطأة تبنيها الشعر القديم بمفرداته وأبنيته وتعبيراته المختلفة والمعقدة إلى حدٍّ ما.

وبرغم تعلقها الشديد بالشعر القديم فإنها تأثرت أيضا ببعض الشعراء المُعاصرين، وأيضا أثناء قراءتي بعض نصوصها الشعرية وجدت تأثرها بعصر النهضة، وتمثل ذلك بتأثرها بأشهر الشعراء في ذلك العصر مثل الشاعر الإنجليزي هنري فاوجان (Henry Vaughan) (١٦٢١-١٦٩٥)، والشاعرة والكاتبة البريطانية كاثلين رين (Kathleen Raine) (١٩٠٨-٢٠٠٣) والشاعر الإنجليزي ويليامبتلر ييتس (William Butler Yeats) (١٨٦٥-١٩٣٩).

كتاب “مشهد الاستماع”

 

من أهم أعمال ماريا زاتورسينكا “مشهد الاستماع” (The Listening Landscape) عام ١٩٣٤، و”المرآة الذهبية” (The Golden Mirror) عام ١٩٤٤، و”تاريخ الشعر الأمريكي من ١٩٠٠ إلى ١٩٤٠” (A History of American Poetry, 1900-1940) عام ١٩٤٦، و”قصائد مختارة” عام ١٩٤٥، والكثير من الأعمال الأخرى التي خلدت اسم ماريا زاتورنيسكا بوصفها شاعرة أمريكية ذات شأن في عصرها وكل العصور.

كتاب المرآة الذهبية

 

الرائدة

منذ أن هاجرت الشاعرة ماريا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وصار لها اسم شهير في العالم الشعري الأمريكي، تبعها كثير من الشعراء والكُتاب الروس بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كأنها فتحت الطريق أمامهم، وكان من أبرزهم الشاعر چوزيف بوروديسكي (Joseph Brodsky) (١٩٤٠-١٩٩٦(. والذي حاز على جائزة نوبل في الآداب عام ١٩٨٧، والشاعر والمترجم فلاديمير نابوكوف (Vladimir Nabokov) (١٨٩٩-١٩٧٧) والكاتب إسحق عظيموف (Isaac Asimov) (١٩٢٠-١٩٩٢). وأغلب الذين هاجروا كانت هجرتهم لأسباب سياسية واجتماعية حيث الاستبداد والديكتاتورية والاغتيالات الشخصية.

تبنَّت ماريا المدرسة الشعرية الكلاسيكية الإنجليزية، ولكن رؤيتها المختلفة والغريبة للحياة بجوانبها المتعددة جعلتها تتفرد بأسلوب خاص بها غير مُكرر لا تجده عند شعراء آخرين، فتركت بصمة روحها وفكرها المختلف ورؤيتها الغريبه الحالمة على كتاباتها الشعرية فتركت إرثًا شعريًّا كبيرًا وعظيمًا وأسَّست مدرسة شعرية متفردة تجمع بين القديم وبين رؤيتها الذاتية المختلفة لكل ما هو قديم وعتيق.

وهذه ترجمة لقصيدتها “للفصول”

للفصولِ

(For the Seasons)

مُتَّقِدَةٌ بين الدِّفءِ والبُرُودَةِ

في طَقسٍ رَبِيعيٍّ حَنُونٍ

تَرَكتُ يَدِي المُتَوَتِّرةَ تَحتَضِنُ ما استَطَاعَت جَمعُهُ من الحُبِّ.

تَهِزُّ الرَّغبَةُ فَرعًا

من كُلِّ شَجَرةٍ مُرتَجِفَةٍ

فالحُبُّ كالانهِيَارِ الجَليِديِّ

يُدَمِّرُنِي.

الآنَ مُشرِقٌ في الهَواءِ

أثَرُ الحُبِّ السَّاطِعِ

فهو أكثرُ ما يُمكِنُنِي تَحَمُّلهُ

أُكَبِّلُ شَعْرِي المُتَطَايرَ.

دَع العُشَّاقَ الآخَرِينَ يَرقُدونَ

تحتَ تِلكَ الشَّجَرةِ العَظِيمَةِ

ذات الفَاكِهةِ الغَنِيَّةِ المُدْهِشَةِ

واصنَعْ ثِيَابَهُم:

أدِرْ نَظَرتَهُم المُشْتَعِلةَ

نحوَ ذلكَ الكِتَابِ

الشَّاسِعِ العَمِيقِ

ذي الأحرُفِ المُرَصَّعةِ بالنُّجُومِ،

الذي تَتَجَاوَزُ معَانيِهِ الرَّائعةُ

الأعَرافَ والتَقَاليدَ

مُجرَّد لحّظةٍ ليس أكثر

 

عن د. سارة حامد حواس

مترجمة، مدرس اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة المنصورة، تخرجت في الكلية نفسها بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وحصلت منها على درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغويات التطبيقية. حصلت على عديد من الدورات التدريبية، وشاركت في كثير من المؤتمرات العلمية الجامعية. ولها أبحاث في التخصص منشورة في عدد من المجلات المصرية والأجنبية. وهي منسقة البرنامج التخصصي للغة الإنجليزية والترجمة بكلية الآداب جامعة المنصورة، ومنسقة الكلية لدى نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنصورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *