أحدث الحكايا

أحمد صلاح الدين يحكي: من شرفة جوجول.. لا حياة بلا أدب

“نعدو ولا نكاد نرى إلى أين تقودنا أقدامنا، ولذا نسقط مرة ومرارا، وأحيانا لا تتاح لنا حتى فرصة التقاط الأنفاس، فنسقط سقوط المغشى عليه دون مقدمات. نرتحل بلا زاد للطريق فنصير نهبا للجوع، لنجد أنفسنا في سبيل لا يقود سوى للهلاك…”

فلاديمير شاروف

هكذا استهل الكاتب الروسي الراحل كلامه في حوار أجريته معه قبل أعوام مجيبا على سؤال بخصوص القراءة في عالم اليوم. وعلى الفور اعتبرت كلام شاروف بمثابة تحريض على التفكير، أو كما تحدثت سفيتلانا أليكسييفيتش في كتابها “صلاة تشرنوبل” عن زمن توقف ليفكر، لأدرك أن هذا ما نحتاج إليه اليوم بالضبط: “أن نحاول إيقاف الزمن ولو على سبيل المجاز لنفكر”، ونتأمل حالنا مع قراءة الأدب وأدب القراءة، لنعرف أين نحن وماذا علينا أن نفعل من خلال إجابتنا على أسئلة تبدو بديهية لكننا في أمس الحاجة لمعرفة الإجابات عليها أكثر من أي وقت آخر.

 

سفيتلانا أليكسييفيتش وكتابها “صلاة تشرنوبل”

 

 

ماذا تعني كلمة أدب؟

بداية ربما علينا  أن نعرف ماذا تعني كلمة أدب وما هو النص الأدبي. وبالعودة إلى تعريف كلمة أدب في عدة مراجع ، نجد أن له عدة تعريفات، أولها أن كلمة الأدب أصلها لاتيني “ليترس” أو “حروف” وهو ما يشير إلى أن الأدب له علاقة وثيقة بالكلمة المكتوبة، ويعد هذا هو مصدر تسمية الأديب في اللغة الإنجليزية بـ “رجل الحروف”، وهو ما يقودنا للتعريف الثاني للأدب وهو كل نص مكتوب في أي مجال، أي أن الأدب هو حاصل جمع كل النصوص المكتوبة والمطبوعة في موضوع ما.

أما التعريف الخاص بما يسمى الأدب الإبداعي فهو يعني النصوص النثرية أو الشعرية التي يكتبها مؤلفون خلاقون من وحي الخيال أو من خلال معالجات فنية  لأحداث ووقائع تحيل القارئ لحالات شعورية يستهدفها المبدع.

على جانب آخر، يرى البعض أن الأدب فن في كل التعريفات السالفة، ولكن بدرجات متفاوتة، فهو في أبسط أشكاله حين يعرض نصا مكتوبا بغرض معلوماتي أو خبري، بينما يصل لأعلى درجاته في نصوص أخرى. وبين هذا وذاك نصوص لقيطة دون أصل ولا تعدو كونها محاكاة بائسة  في مساحة “كأن” كما يقول الناقد الأستاذ محمد الروبي.

 

“الأدب بالنسبة لي هو المتعة كما أنه يساعدني أن أرى نفسي على نحو أفضل، وحين يرى الإنسان نفسه يصير قادرا على رؤية العالم وبالتالي يمتلك وعيا أفضل.”

دميتري بيكاف

 

هو المتعة

 

دميتري بيكاف

بينما يلقي الكاتب الروسي دميتري بيكاف محاضرة عن الأدب، سأله أحد الحاضرين عن أهمية الأدب ولماذا نقرأه، فما كان منه سوى أن ابتسم وقال للسائل دون أن تغادر وجهه تلك الابتسامة الطفولية المعتادة: الأدب بالنسبة لي هو المتعة كما أنه يساعدني أن أرى نفسي على نحو أفضل، وحين يرى الإنسان نفسه يصير قادرا على رؤية العالم وبالتالي يمتلك وعيا أفضل.

 

ألكسندر بوب

وفي مقولة شهيرة للشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب، ذكر أن للأدب مهمتين أساسيتين، وهما التعليم والمتعة. ونظرا لأن الأدب يعبر على جسر اللغة، فهي هنا بمثابة الشفرة الجينية للنص الأدبي وحامل صفاته الفنية وسماته السيميولوجية، لذا فإن الشفرة الجينية للنص وأكواده السيميولوجية لن يكن لها أي وجود يذكر بدون اللغة.

وبما أن الأدب هو أرقى درجات التعبير الإنساني، فهو مصدر ثراء الوعي البشري ومانح القدرة على التفكير والتصور وصياغة المفاهيم عن الذات والحياة في آن، ويمنح الإنسان فرصة الاطلاع على تجارب إنسانية ربما لن يعيش أو يرى مثلها، فضلا عن قدرة الأدب على تنمية الخيال عند القارئ وهو ما يفتح أمامه مسارات الإدرك.

 

كلما كان النص الأدبي ثريا في فنياته وشفرته اللغوية، كلما كان كالغذاء الغني بالفيتامينات، يجعل المرء منا في كامل صحته الذهنية، بل ويُمكّنه من تشكيل رؤية أفضل للعالم.

 

غني بالفيتامينات

وكلما كان النص الأدبي ثريا في فنياته وشفرته اللغوية، كلما كان كالغذاء الغني بالفيتامينات، يجعل المرء منا في كامل صحته الذهنية، بل ويمكنه من تشكيل رؤية أفضل للعالم. وفي حالة قراءة نص أدبي ضعيف، كمن يتناول طعاما ضارا بالصحة، حتى لو كان أشهى بفعل البهارات ومكسبات الطعم. ولكي يكون الوعي في أفضل حالاته والنشاط الذهني في كامل طاقته، فنحن في حاجة ماسة للأدب الرفيع، لأننا بذلك نضمن تغذية سليمة للعقل ومن ثم تربية صالحة للوعي. إذن فالأدب الرفيع يعني الملاءة العقلية، والأدب الضعيف هو عين النقصان، ولا حياة بلا أدب.

عن أحمد صلاح الدين

كاتب ومترجم مصري، حاصل على ليسانس الآداب في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة عين شمس، وعلى درجة الماجيستير في اللسانيات من جامعة ليف تالستوي بروسيا، كما يستعد الآن للدفاع عن أطروحته للدكتوراه في الأدب الروسي المعاصر بمعهد جوركي للأدب بموسكو. قدم صلاح الدين العديد من الترجمات عن اللغة الروسية والإنجليزية، وساهم بمقالاته عبر سنوات في تقديم الأدب الروسي المعاصر للقارئ العربي. من أشهر أعماله "صلاة تشرنوبل" لسفيتلانا إليكسييفيتش، "أورشليم" لجونسالو تفاريس، "يوميات فتاة تحت الاحتلال" لآن فرانك، "الأب سيرجي" لليف تالستوي، و"دون طريق بلا أثر" لدينيس جوتسكو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *