أحدث الحكايا

د. شوكت المصري يحكي: قصيدة النثر.. من “عِيَار الشّعر” إلى “صبحي موسى”

كنا ثلاثةَ أصدقاء لم يفترقوا إلا نادرًا في تلك الأيام، وفي صباحٍ من صباحاتِ الشبابِ الأوَّل التقينا على رصيف المحطة مستقلّين القطار إلى مدينة “شبين الكوم”. جمعَتنا الصدفة بعد ركوبنا القطار بدقائق برفاقٍ من قريتنا يتوجّهون أيضًا للمدينة ذاتها.

كوَّنَّا دائرةً من ستة أشخاص أنهوا تعليمهم الجامعي ونالوا قسطًا لا بأس به من المعرفة والثقافة، أربعةٌ منّا جلسوا على الكراسي المتقابلة، بينما وقفَ الخامسُ مستنِدًا بظهره على الشبّاك وواجهه السادس واقفًا على الناحية التي فيها الممر.

كان الشاعر “صبحي موسى”، الذي أصبح روائيًا مبرَّزًا فيما بعد، يحتفي بإصدار ديوانه الأول الذي طالما حلُمَ به ثلاثيٌّ ينتمي للقرية نفسها -أنا وهو والشاعر “عادل سميح”-. “يرفرفُ بجانبها وحده” كان هذا هو عنوان الديوان الذي صدرَ في طبعةٍ خاصة على نفقة “صبحي”، طبعة محدودة صغيرة العدد وبسيطةٌ جدا في إخراجها الفني، لكنها كانت كبيرة في أعيننا وأعين الكثيرين من الأصدقاء المهمومين بالشعر والأدب، خاصةً وأن صبحي كان قد أسس آنذاك مع مجموعة من اليساريين على رأسهم الدكتور الراحل “أحمد نصّار” منبرًا ثقافيًا بمحافظة المنوفية أُطْلِقَ عليه اسم “بشائر”.

غلاف ديوان يرفرف بجانبها وحده

الشاعران الراحلان “شريف رزق” و”وسام الدويك”، والشاعر “شريف الشافعي”، والناقد الدكتور “هيثم الحاج علي”، والشاعر “علي عبد الحميد بدر” والقاص “هيثم شرابي”، وآخرون؛ كانوا هؤلاء جميعًا انطلاقة منبر “بشائر” بمحافظة المنوفية، والذي نجح في إصدار ثلاثة أعداد من مجلة ثقافية أهليّة غير دورية حملت الاسم نفسه عام 1997، بالإضافة إلى هذا الديوان، قبل أن تخترق إدارة قصر الثقافةِ بشبين الكوم المجموعةَ والمنبر ليحوّل المجلّة إلى مجلة تابعة للمؤسسة الرسمية سُمِّيتْ “تواصل”، والتي توقفت بعد ثلاثة أعوام بسبب دولاب العمل الحكومي السيئ المفسد أحيانًا للثقافة والإبداع بفعلِ اللوائح والروتين المُهلِك.

صبحي موسى

كان “صبحي موسى” يضع كيسًا على ركبتيه، بينما القطار يدخلُ بنا محطة مدينة “منوف” معلنًا انتصافَ الطريق نحو عاصمة المحافظة. سألَهُ أحد رفقاء الرحلة -وهو الآن محامٍ ذو مكانة في منطقتنا- عما يحمله؛ فأجابَهُ “صبحي” بأنها نُسَخٌ من ديوانه الأول الذي صدر منذ أيام قلائل، فطَلَب منه الاطلاع عليه. ناولَهُ “صبحي” نسخةً فتصفحها ببطءٍ ونحن نتتبعه بأعيننا، ثم قرأ:

حجرَةُ السجن واسعة

ما الفرقُ بينها والمقبرة؟!

جدرانُها بيضاء

أبوابُها بيضاء..

لا لونَ لكَ

غيرَ أنَّكَ فرعٌ من الليمونِ ينتحب

تدورُ أمُّكَ حافيةً برأْسِها

حولَ موقدك

أيُّ البلادِ تجاوزتكَ

أيُّ الحدودِ

وأنتَ نائمٌ

بين فرحةِ القصيدةِ وصرخة الميلاد”.

 أغلقَ صديقنا المحامي الديوان بعد أن توقَّفَ عن القراءَةِ وانتهى من فَرِّ صفحاته من بدايته إلى نهايته في سرعةٍ وعُجالة، ثُمَّ نظرَ إلينا متعجّبًا وهو يقول: “هو ده شِعْر؟!!” فأجبتُهُ “أيوه شِعر.. مالُه يعني؟!!”، فاستدركَ مستنكِرًا: “أصل ما فيش قصيدة عن وَصْف الربيع ولا وصف بِرْكَة ولا هجاء ولا مديح!!”.. انفجر ثلاثتُنا ضاحكين من الأسى، بينما تعجَّب الرفاق الآخرون من ضحكنا، فليسَ في تساؤل الصديق شيء يضحك، أليسَ الشعر كذلك أم أنه تغيَّر؟!

 لقد أصبحنا الآن ننتمي إلى عصرٍ مفتوح تتجاور فيه الأزمان السابقة مع الآنيَّة على رقعةِ ذاكرةٍ وفضاءِ رَقْميٍّ واسع واحد، وأصبحت متابعةُ المنتج الأدبي والإبداعي المعاصر أكثر سهولة في ظل تعدد قنوات الاتصال ووسائل المعرفة وسهولتها.

الجمود

لم تغِب هذه الواقعةُ عن ذهني طيلة ربع قرنٍ من الزمان، خاصةً كلما اصطدمتُ بجمود الكثيرين حتى من بعض أساتذة النقد المتخصصين فيما يتعلق بقصيدة النثر وأنماط الكتابة الجديدة والتجريب في القصة والرواية وغيرها من فنون الأدب والإبداع، فللأسف أفسدتْ مناهجُ التعليم قبل الجامعي والجامعي أيضًا علاقةَ المجتمع بالأدب وتطوره، ولكَ أن تتخيّل قارئي العزيز أن خريج كليات الآداب واللغات يمكن ألا تتجاوز معرفته بالكتابة والأدب مرحلة الرومانسية التي انتهت في ثلاثينيات القرن الماضي أو نصوصَ المنفلوطي وتوفيق الحكيم (إن أدرَكَهما من الأساس)، أو على أقصى تقدير يمكنه أن يسمع عن أمل دنقل أو عفيفي مطر أو حلمي سالم أو أدونيس، لو ساقَ لهُ القدَر أستاذًا مطّلعًا على الأدب الحديث واتجاهات الحداثة، فما بالكَ بخريجي الكلِّيات غير المتخصصة وما آل إليه حالُهُم في علاقتهم بالفنونِ والإبداعِ والأدب؟!

لقد أصبحنا الآن ننتمي إلى عصرٍ مفتوح تتجاور فيه الأزمان السابقة مع الآنيَّة على رقعةِ ذاكرةٍ وفضاءِ رَقْميٍّ واسع واحد، وأصبحت متابعةُ المنتج الأدبي والإبداعي المعاصر أكثر سهولة في ظل تعدد قنوات الاتصال ووسائل المعرفة وسهولتها. على عكس الأزمان السابقة التي كان فيها اكتساب المعارف ومتابعة المنتج الأدبي تحتاجُ إلى جَهْدٍ كبير مُضنٍ، لكن الأغرب أن القدماء كانوا أكثر حيويةً وقبولاً للتجديد ومتابعةً له، بينما نحن نعاني الجمود والرجعية وأحادية الفكر التي تصل حدَّ التطرف.

ليتنا نستطيع استعادة هذا الحياد في مواقفنا النقدية من الإبداع والفنون والآداب، دونما انحياز أو تحزّب لقديم على حساب جديد أو العكس، ليبقى الانتصار فقط لكل ما هو جميل وفريد وحقيقي ومختلف.. ليتنا نستطيع

عِيار الشعر

وها نحن نفتقد حيوية الناقد وجدّيته بل وقبول التجديد والتجريب والتعامل مع النصوص الجديدة كما عرفها المتقدِّمون، فلو نظرنا مثلاً إلى كتاب “عِيار الشعر” الذي ألَّفَهُ صاحبه “أبو الحسن محمد بن طباطبا العلوي (250 هـ / 864 م – 322 هـ / 933 م)” قبلَ ما يقرب من ألفٍ ومائتي عامٍ، لوجدنا أننا أمامَ مصنَّفٍ فريد من نوعه ليس فقط في زمنه ولكن حتى في زمننا هذا أيضًا. ولقد سبق أستاذنا الدكتور محمد زغلول سلام رحمة الله عليه إلى تحقيق هذا الكتاب وأصدره في أكثر من طبعة بشروحٍ ودراسةٍ وافية تبرز مكانة الكتاب في زمنه وفي الدرس النقدي العربي بعامة.

كتاب عيار الشعر

ومن أبرز ما يميز كتاب “عيار الشعر” أنه أولا: صدَرَ عن ناقدٍ مجرِّب ممارس، فابن طباطبا العلوي شاعرٌ له ديوانٌ مشهور تم طبعه وتحقيقه أكثر من مرّة، وأشهرها طبعته التي صدرت عن جامعة البتراء الأردنية عام 2002 بتحقيق د. شريف علاونة. ومن أشهر أبياته عند العامة بيتٌ يعارض فيه قولا شهيرًا لـ “أبي تمام” الذي كان معاصرًا له، وهو:

نقِّل فؤادَكَ حيثُ شئتَ من الهوى        ما الحبُّ إلا للحبـــــــــيبِ الأوّلِ

حيث يعارضه اِبن طباطبا فيقول:

دَع حُبَّ أَول مِن كَلَفْتَ بِحُبِّهِ            ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الآخِرِ

أما ثاني ما يميّز كتاب “عيار الشعر” فهو محاولته وضعَ “عِيار (أي معيار قياس)” للشعر يميزه به عن غيره من فنون الأدب والكتابة من جهة، ويميز فيه بين قصائد القدامى والمحدثين (في عصره) من جهةٍ أخرى.

أشعار ابن طباطبا العَلَوِيّ

ليتنا نستطيع استعادة هذا الحياد في مواقفنا النقدية من الإبداع والفنون والآداب، دونما انحياز أو تحزّب لقديم على حساب جديد أو العكس، ليبقى الانتصار فقط لكل ما هو جميل وفريد وحقيقي ومختلف

أشعار ابن طباطبا العَلَوِيّ

وقد اتَّبَع “ابن طباطبا العَلَوِيّ” سبعةَ معايير في قياسه للشعر داخل كتابه هذا، هذه المعايير السبعة تتضح من خلالها منهجيته في التعامل مع النصوص وضوابط رؤيته لها، وهي:

أولاً اتباع سنّة العربِ في شعرهم، حيث ضرورة اطلاع الشاعر على منجز السابقين عليه، فالفصاحة تنتقل من جيلٍ إلى جيل، وهذا ليس من باب التقليد وإنما من حيث وجوب وقوف الشاعر أو الأديب على ما قدمه القدماء من منجز. وثانيًا تحليل النص وتذوّقه، انطلاقًا من الجماليات الخاصة بالنصوص، مقابلاً بين النماذج، حيث يُتبِع نموذجًا جيدًا بآخر رديء ليبرز ما بين الاثنين من تباين. ثم يأتي معيار تحكيم العقل، ويقصد به ابن طباطبا قبول الحواس لتذوق الفن في العقل إيثارًا للحُسْن وتجنبًا للقبيح. وفي المقام الرابع تأتي الشواهد الشعرية، ثم حضور السامع في الفكر، وهو تفعيلٌ لدور المتلقي في فهم النصوص، ثم تدريب الشعراء الجدد، ثم إبراز العيوب.

لقد وقف ابن طباطبا العلوي موقفًا نموذجيًا معتدلا في تناوله للشعر بين القدماء والمحدثين -في عصره-، على عكس كثيرٍ ممن سبقوه، كابن المعتز في “طبقات الشعراء المحدثين” الذي تحيَّزَ للمحدثين، وكابن قتيبة في “الشعر والشعراء” الذي تحيَّزَ للقدماء. بينما ابن طباطبا ذكر أشعار “القدماء والمحدثين” في مواضع مختلفة من كتابه دون أن يوجه المتلقي بوضوح إلى أحدهما، ودونما انحياز إلا بتبرير وبرهان. ومن ذلك قوله: “أكثر ما يُستَحْسَنُ الشعرَ تقليدًا على حسب شهرة الشاعر وتقدم زمانه، وإلا فهذا الشعر أولى بالاستحسان والاستجادة من كل شعر تقدمه”. وهكذا يظهر لقارئ “عيار الشعر” حياد ابن طباطبا النقدي ومنهجه العلمي وذوقه الرفيع.

وقبل الختام أقول.. ليتنا نستطيع استعادة هذا الحياد في مواقفنا النقدية من الإبداع والفنون والآداب، دونما انحياز أو تحزّب لقديم على حساب جديد أو العكس، ليبقى الانتصار فقط لكل ما هو جميل وفريد وحقيقي ومختلف.. ليتنا نستطيع.

عن شوكت المصري

شاعر وناقد أكاديمي، أستاذ مساعد النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون بالقاهرة ورئيس قسم النقد الأدبي بالمعهد العالي للنقد الفني بالإسكندرية، المدير التنفيذي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب من ٢٠١٩ إلى ٢٠٢٢.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *