كان ياما كان؛ قبل أن يوجد الإنسان ويعرف ما هو الحب، وُجدت إيزيس، لتعطي المثل الأعلى للإنسانية والحب وأشياء جميلة كثيرة أخرى.
أحببت إيزيس حبًا لا مزيد عليه منذ رأيتها أول مرة على شاشة القناة الأولى بالتليفزيون المصري؛ عندما كان لا يحتوى سوى القناتين الأولى والثانية، حتى إنني متيقن أنها تحبني، فلا يمكن أن تضيع طاقة الحب التي بداخلي لها هباءً، ولا يمكن ألا تشعر بها ربة الحب.
ربما كنت في العاشرة من عمري عندما سببت لي حكاية “ست” مع أخية “أوزيريس” مشكلة كبيرة لم أستطع حلها إلا بعد مدة. فعندما شاهدت برنامجًا دراميًا للأطفال يحكي قصة إيزيس وأوزيريس وأخيه الشرير ست؛ شعرت بالغيظ الشديد من أوزيريس وهو يتمدد داخل التابوت/الفخ الذي صنعه له ست بمقاس جسده ليتخلص منه. أنا الطفل الصغير أجلس أمام التليفزيون وأعرف ما دبره ست مع أصدقائه الأشرار لكي يتخلص من أوزيريس، ويستولي على الملك، بأن يضعه في صندوق، ويلقي به في النيل.. فكيف بأوزيريس وهو الملك الإله لا يعرف هذه المعلومة الواضحة التي أعرفها؟!
أعجبت بإيزيس التي لم تكن موجودة في مجلس الشر، إلا أنها فهمت أن ست هو من تخلص من زوجها، فأحسست أنها ذكية بقدر ذكائي، أذكى كثيرًا من أوزيريس. ثم وجدتها تحارب بكل قوة، بالتخفي أحيانًا هربًا بابنها حورس، بالظهور أحيانًا لترعب ست الذي يؤنبه ضميره لقتل أخيه، ثم بالإبداع كله عندما تجمع القطع المتناثرة من جسد أوزيريس في أقاليم مصر، لكي تعيد خلقه من جديد، ليكون إلهًا على عالم الأرواح.
“ربما تكون إيزيس أكثر ربات العالم القديم خلودًا. المرأة التي لم تصور بشكل حيوان أو طائر أو غيره، بل صورت كأنثى كاملة تحمل الحياة ممثلة في مفتاح الحياة “عنخ” الذي تمسكه بيدها”.
إيزيس ربة الجمال والحب
ورثت ايزيس الإلهة السابقة حتحور التي تبزغ الشمس بين قرنيها، وانتشرت محبتها في العالم كله.. النوبيون يبنون لها معابد، ويحرصون على إرضائها لأنها تملك كل القوى السحرية التي تملكها الآلهة الأخرى. يحتل أرض مصر اليونانيون ثم الرومان لكنهم يعبدون ربتها إيزيس. تستنسخها الشعوب ربة للجمال والحب والخصوبة والوفاء والسحر، أفروديت وعشتروت وغيرهما. حنانها الغامر وهي تحتضن طفلها الرضيع حورس يعطي مثلا للرسامين الذين لم يجدوا أروع من هذا الحضن إذ يرسمون السيدة مريم العذراء وهي تضم المسيح إلى صدرها.
ربما تكون إيزيس أكثر ربات العالم القديم خلودًا. المرأة التي لم تصور بشكل حيوان أو طائر أو غيره، بل صُورت كأنثى كاملة تحمل الحياة ممثلة في مفتاح الحياة “عنخ” الذي تمسكه بيدها، وترشد أرواح الموتى في الحياة الآخرة، فكأنها الأم التي ترعى البشر في كل أشكال ومراحل حياتهم الدنيوية والأخروية، كما ترعى ملك مصر الذي كان يعتبر وريثا لابنها حورس الذي استعاد العرش من عمه ست، فهي راعية الحياة والعرش معًا.
لماذا إيزيس؟
ورغم اختلاف طقوس عبادتها ورمزيتها، ورغم الاختلاف حول مدى تأثير هذه الطقوس في المسيحية التي قضت على الوثنية في العالم؛ فإن إيزيس عبرت كل هذه العصور لتظل رمزًا لبعض الجماعات الدينية السرية حتى الآن. إذ لم يبق في الذاكرة الحية من التاسوع المقدس سوى إيزيس، حتى “آتوم” إله الخلق، وأوزيريس نفسه لا نذكره إلا لأننا نذكر قصه إيزيس، فلماذا هي؟
“كانت إيزيس تمثل كل جوانب الحياة الظاهرة والخفية، تمثل الإنسان بحقيقته، والعالم الماورائي بغموضه وسحره”.
ربما لأنها كانت تمثل كل أدوار الحياة الإنسانية؛ الزوجة الوفية العاشقة التي لم تتخل عن زوجها وحبيبها. الزوجه التي تحفز حبيبها روحيًا وجنسيًا لتنجب منه وريثًا للعرش. الأم التي تحمي طفلها. الخصوبة. القدرات السحرية. كانت إيزيس تمثل كل جوانب الحياة الظاهرة والخفية، تمثل الإنسان بحقيقته، والعالم الماورائي بغموضه وسحره. هي أكثر ربات العالم القديم إنسانية، تُرسم كامرأة رقيقه أنيقة ترتدي فستانًا بسيطًا، وتمسك أوراق البردي في يد، ومفتاح الحياة (عنخ) في اليد الأخرى. وكما كانت الجسر الرابط بين عالمي الدنيا والحياة الأخروية؛ ربطت أيضًا بين مصر والنوبة واليونان والرومان وشعوب أخرى استوحت حكايتها التي تجمع في طياتها وتفاصيلها أحداثًا إنسانية وسحرية.
الروايات العديدة لقصه إيزيس تحمل تفاصيل مذهلة، بعضها لا يذكره أحد مثل خلافاتها المستمرة مع ابنها حورس الذي أنجبته بإرادتها التي خلقت أوزيريس من جديد وبثته القوة الجنسية، وأعادت إلي ابنها عرشه، فأصبحت رمزًا لأم الملك الحالي، وزوجة الملك الميت، وروح العرش، حتى يقال إن حورس في أحد خلافاته معها قطع رأسها!
تلك التفاصيل العديدة تجعلها مزيجًا من إنسانة حية تعيش بين الناس، وربة في العالم الغامض، ورمزًا في العقول التي لا تستطيع أن تعيش بدون رموز موحية.
سحر إيزيس
أما أنا فقد كانت إيزيس بالنسبة لي هي الروح التي تلملم أشلاء أفكاري عندما تتبعثر، فتجعل منها جسدًا مكتملًا، وتبث فيه روحًا. أتذكر إيزيس فتدب الحياة في أصابعي وكأنني أمتلك كل قوى (عنخ) فتضج أزرار الكمبيوتر محاولة اللحاق بأفكاري. في لحظات اليأس وما يسمى “قفلة الكتابة” يخفف تفكيري فيها حالتي، فأعلم أن الأمر مؤقت، فتمثل حكاية المرأة التي حاربت كل قوى الشر لتنتصر الحياة واستمرار البشر وقوة العرش؛ يساعدني على هزيمة كل اللحظات السوداء التي تكتنف عقلي أو روحي.
“أحب هذا الرمز الذي يؤكد أن الحياة أقوى من الموت، والحب أعظم من الكراهية، والأمل أنصع من اليأس، وأن القوة الحقيقية التي تجعلنا نواصل حياتنا لنصل إلى خلودنا موجودة بداخلنا”.
عندما أصدرت كتابي النقدي الأول “قراءات في السرد التطبيقي” لم أفكر سوى في إيزيس لكي أهديه لها “إلى إيزيس.. رمز الإبداع في كل العصور”. أحب قاعة المؤتمرات في مكتبة الإسكندرية لأن مدخلها به تمثال ضخم لإيزيس، أحب الوقوف أمامه لتلتقط لي الصور وحدي أو مع آخرين، أحب الوقوف في الشرفة المطلة على التمثال لأرى الجموع يتحلقون حولها. ميدالية المفاتيح في جيبي نموذج مصغر للتمثال الذي وجدوه لها في أعماق البحر المتوسط، بدون رأس!
بالتأكيد لم أعبد إيزيس يومًا، ولا أفكر في ذلك، لكنني أحب هذا الرمز الذي يؤكد أن الحياة أقوى من الموت، والحب أعظم من الكراهية، والأمل أنصع من اليأس، وأن القوة الحقيقية التي تجعلنا نواصل حياتنا لنصل إلى خلودنا موجودة بداخلنا، علينا فقط أن نبحث عنها، ونحبها، ونحييها.
مقال رائع يفصح فيه كاتبنا المميز أستاذ منير عتيبه عن أحدي ملهمات الكاتبة لديه
ألف شكر لحضرتك