أحدث الحكايا

د. أيمن بكر يحكي: الصمت العنصري والحقائق القديمة التي لم تزل صالحة لإثارة الدهشة

في العام 2016 زرت مدينة بوردو الفرنسية، التي كانت مرفأ مشهورا لتجارة العبيد حتى القرن التاسع عشر، وفي متحفها القومي هناك قسم كبير للأدوات التي كانت مستخدمة في التعامل مع الأسرى الأفارقة: سلاسل للرقبة واليدين والقدمين وأدوات تعذيب مهينة.

من زاوية ثانية تخبرنا الإحصاءات الفرنسية بأن فرنسا استخدمت حوالي ١٨٠ ألف أفريقي من السنغال وغيرها للدفاع عن نفسها في الحرب العالمية الأولى.

لقد تم إجبار هؤلاء على المغامرة بحيواتهم وغالبا التضحية بها طبقا لإرغامات العنصرية الغربية آنذاك، تلك التي لم تنظر إلى الأفارقة كبشر مساوين لهم، بل ككائنات أقل كثيرا تتمتع بدرجة عالية من العنف الطبيعي والهمجية المتأصلة في الجينات، لكن فرنسا -للإنصاف- قامت بعمل نصب تذكاري مكون من تسعة تماثيل لتخليد ذكرى هذه الحفنة من الأفارقة التي أُجبر أفرادها على إنهاء حيواتهم رغما عنهم، كما اعترفت عبر متحفها ببشاعة الماضي الاستعماري لها. لكن أهو بالفعل ماض قد انتهى أم أن الوضع اختلف على السطح؟ ولماذا -إن كان قد انتهى فعلا- لا تقوم فرنسا وغيرها من دول الاستعمار الأوروبي بتعويض الدول التي اغتصبت أرضها وثرواتها وإنسانها؟

من حدائق الحيوانات البشرية

لقد تناول كثير من الباحثين تاريخ العنصرية الغربية الرهيب، الذي استمر العمل بقوانينه رسميا حتى ما بعد النصف الأول من القرن العشرين، حين كان لا يسمح لذوي البشرة السوداء بدخول أماكن معينة، أو الجلوس في مقدمة الحافلات العامة. لكن الغرب اليورو-أمريكي لم يتعامل مع الأفارقة من ذوي البشرة السمراء وحدهم ككائنات أقل تطورا وأكثر همجية، بل إن هذه الفكرة المريعة هي جزء رئيس من مبررات العصر الاستعماري كله؛ أي إن الجميع خارج أوروبا كانوا أقرب للحيوانات التي يجب السيطرة على نوازعها البربرية المفروضة عليهم بسبب طبيعتهم الجينية، وهو ما سمح للغرب الهمجي البربري بإنشاء حدائق الحيوان البشرية في أوروبا وأمريكا للأعراق المختلفة من أفارقة وهنود حمر وجماعات من أمريكا اللاتينية.

تم تصوير الفلبينيين وهم يرتدون مآزر ويجلسون في دائرة معًا في كوني آيلاند في نيويورك في أوائل القرن العشرين بينما كانت حشود من الأمريكيين يراقبونهم من خلف الحواجز.

محاولات تبرير البربرية

لم يتخلص الغرب من تصوراته عن المختلفين عنه في العالم؛ فحتى ثمانينيات القرن العشرين حاولت السياسات الرأسمالية للغرب الاستعماري إنتاج نظريات في علم البيولوجيا لتأييد تصوراته العنصرية عن باقي أجناس الأرض. يفضح مجموعة من العلماء هذا السعي الذي وجد دعما كبيرا من سياسات الليبرالية الجديدة خلال الثمانينيات، وخاصة خلال فترة ريجان/تاتشر.

لقد اجتمع ثلاثة علماء من تخصصات علم الجينات التطوري  (Evolutionary Genetics) والبيولوجيا العصبية Neurobiology وعلم النفس ليقدموا عام ١٩٨٤ كتابا من أهم ما تم طرحه في هذه المسألة هو كتاب: “ليس في جيناتنا: علم الأحياء والأيديولوجيا والطبيعة البشرية” Not In Our Genes: Biology, Ideology and Human Nature، وفيه يكشفون كيف حاولت سياسات اليمين الغربي إلصاق الفروق في السلوك والقدرات العقلية والنفسية بطبيعة التركيب الجيني للأفراد؛ أي إن القاتل واللص والشخص العنيف والمبدع والعالم والموسيقي ..الخ، لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا، فكل شيء، بنسبة قاهرة، قد تم رسمه في خريطة الجينات التي تفرضها الأعراق المختلفة، وبناء على ذلك، ليس للثقافة والتعليم والقدرات المادية أثر يذكر في تحديد من نكون.

غلاف كتاب «ليس في جيناتنا»

 

طبقا للكتاب السابق؛ لم يتخلص الغرب اليورو-أمريكي من بقايا عميقة وصلبة من تلك النظرة العنصرية الاستعلائية التي ورثها من الحقبة الاستعمارية. بعبارة أخرى، هناك ميراث استعماري عميق ومخيف في وعي الشعوب الغربية لا يختلف كثيرا عن منطق الاستعمار العنصري الذي كان/لم يزل يرى في باقي شعوب العالم كائنات أدنى، يحق للغرب أن يحولها إلى مادة استغلال، ويترك كائناتها الأقل تطورا للجهل والفقر والموت بضمير مستريح؛ فالأمور كلها تسير طبقا لحتمية بيولوجية سبيل لتجنبها، وعلينا جميعا أن نخضع لإرداة الأذكى/الأنضج/الأجمل/الأكثر عقلانية/الأكثر إبداعا/الأكثر إنسانية = هتلر/موسيليني/بايدن/نتنياهو.

الكثير من المجتمعات الغربية يحتفظ بدرجة عميقة وصلبة من العنصرية والتعالي الذي يمثل بداهة وجود بالنسبة لملايين الغربيين، لكن تعبيرهم عن ذلك لم يعد بالكلام أو بالفعل المجرمين قانونا، بل بالصمت واللامبالاة والاستكانة لتصنيفية عنصرية شديدة الصلابة لكل ما/ من هو غير غربي.

العنصرية واللاوعي

لكن مهلا؛ ألا يبدو أن الغرب اليورو-أمريكي هو قائد التحرر من تلك العنصرية، والمدافع الأول عن حقوق الإنسان أيا كان لونه وعرقه ونوعه الجنسي؟ أليست منظمات حقوق الإنسان كلها غربية النشأة؟ فما الذي نهدف إليه هنا؟

صحيح؛ لقد انسحبت أشكال العنصرية الغربية من سياسات الخطاب الاجتماعي العلني، بسبب القوانين المكتوبة التي تنظم المجال العام؛ حيث تجرم تلك القوانين التمييز العنصري بوضوح، إلا أن العنصرية الغربية بقيت في اللاوعي الغربي كميراث أسود للحقبة الاستعمارية، وهو ما يظهر في الفعل السلبي، أي في الصمت واللامبالاة وتجاهل الواقع.

ما أقصد هو أن الكثير من المجتمعات الغربية يحتفظ بدرجة عميقة وصلبة من العنصرية والتعالي الذي يمثل بداهة وجود بالنسبة لملايين الغربيين، لكن تعبيرهم عن ذلك لم يعد بالكلام أو بالفعل المجرمين قانونا، بل بالصمت واللامبالاة والاستكانة لتصنيفية عنصرية شديدة الصلابة لكل ما/من هو غير غربي. إنهم يصمتون عن الفقر والجهل والمرض والتشرد الذي يضرب مليارات من غير الأوروبيين، بل ويستخدمون ما سبق كله لصنع تحالفات غير عادلة مع دول العالم المتخلف بفعل الغرب، لتحقق الرفاهة لمجتمعات الغرب. إنهم يتجاهلون واقع أن إسرائيل دولة احتلال وفصل عنصري، ويلتهبون صراخا بسبب رد الفعل العنيف الدموي من حماس. إنهم ينظرون لحسابات المصالح مع أمريكا واللوبي اليهودي في العالم أولا ثم يذرفون الدموع طبقا لما تمليه عليه مصالحهم وحسب.

غارة جوية إسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023. (Photo by MAHMUD HAMS / AFP)
قصف المستشفيات في غزة

يتصل الأمر هنا بالحكومات وبالكتلة التي لا ترى في سلوك حكوماتها ما يشين أو يدعو للمعارضة. تتضح هذه الأغلبية العنصرية الصامتة من خلال نقيضها المهيض قليل العدد من جماعات مناهضة الليبرالية الجديدة، أو مقاومة الرأسمالية المتوحشة، أو جماعات الحفاظ على البيئة، أو جماعات الانتصار لقضايا العالم الثالث (تسمية عنصرية أخرى)، كما يتجلى الصمت العنصري واللامبالاة تجاه ما تقوم به حكومة الفصل العنصري الإسرائيلية من جرائم في فلسطين المحتلة منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن.

إن إسرائيل هي الوجه العاري للضمير الغربي الحقيقي، الضمير الذي لا يستطيع الإفصاح عن مكنونه بسبب طفرة حدثت في وعي بعض المفكرين، أدت إلى قوانين نظرية ومبادئ نظرية تقيد العنصرية العميقة التي لم تزل حية في لا وعي الغربيين وقلوبهم.

هنا يمكن أن نستخدم إسرائيل (ككيان استعماري مغتصب للأرض) بوصفها العلامة السيميائية الدالة على أن الوعي الاستعماري العنصري الاستعلائي لدى العالم الغرب اليورو-أمريكي تحديدا لم يزل قائما وفاعلا في سياسات الغرب. بعبارة أخرى: تعد إسرائيل بجرائمها المروعة عنوانا للعنصرية الغربية الصامتة التي تركت لإسرائيل الاستعمار الخشن الصريح، ومارسته هي بالصمت عنه في فلسطين وتجاهل واقع الاحتلال وكل ما يرتكب من جرائم، لأن ما يفعله هذا الاستعمار الصهيوني هو تحديدا ما يؤمن به الغرب.

إن إسرائيل هي الوجه العاري للضمير الغربي الحقيقي، الضمير الذي لا يستطيع الإفصاح عن مكنونه بسبب طفرة حدثت في وعي بعض المفكرين، أدت إلى قوانين نظرية ومبادئ نظرية تقيد العنصرية العميقة التي لم تزل حية في لا وعي الغربيين وقلوبهم.

جنود إسرائيليون يعتقلون صبيا فلسطينيا خلال احتجاج في الخليل بالضفة الغربية المحتلة في 23 فبراير 2018. REUTERS/Mussa Qawasma

ليست الحياة واحدة

وبناء على ما سبق: ليست الحياة واحدة وليس الموت واحدا، هناك في عالمنا قائمة لأنواع الموت: موت من الدرجة الأولى للغربيين، وموت من الدرجة الثانية لحلفائهم المهمين في آسيا، وموت من الدرجة الثالثة رخيص متروك لباقي العالم.

لكن هل يخلو باقي العالم هذا -خاصة العالم العربي- من العنصرية والانقسام الطائفي والتصنيفات التراتبية الصلبة لأنواع البشر وأعراقهم؟ الإجابة الحزينة هي بالطبع: لا، هناك وعي عنصري مخيف لم يزل مسيطرا على باقي العالم، ويتجلى في التعالي المقيت باسم الدين أو المذهب أو العرق/العائلة/القبيلة، أو الثروة وغير ذلك من وسائل الترتيب غير الإنسانية.

ما أقوله الآن هو انفضاح معايير الغرب الذي لم يزل يحتفظ بمنطق الاستعمار، الغرب الذي كان سببا رئيسا في انفلات العنصرية داخل مستعمراته القديمة بالتحديد.

أسئلة مشروعة

أسئلة ختامية موجهة لكل البشر غير المؤمنين بالحتمية البيولوجية، أو التفاوت العرقي الطبيعي بين البشر:

– متى نبدأ في حركة قانونية لمطالبة الغرب الاستعماري بدفع تعويضات لمستعمراته القديمة والعمل الفوري على تحرير اقتصاداتها من الهيمنة الغربية الجديدة التي تلتهم موارد تلك الدول؟ (لنا في علاقة فرنسا/مالي/النيجر مثال.)

– متى نبدأ في العالم الثالث المسكين في استخدام مواردنا لصالح شعوبنا؟

– متى نبدأ في السعي نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأفكار والطعام والدواء والكساء؟

– لماذا نهدر أعمار مبدعينا ومفكرينا وعلمائنا في حروب سياسية عنصرية داخلية مقيتة، أو نطردهم ليستقروا في حضن الغرب العنصري؟

– متى نستوعب أن تجمع الدول المتضررة من سياسات الرأسمالية الغربية، وتكتل هذه الدول في كيان اقتصادي كبير هو حتمية لا مفر منها؟

سيرك الأجناس البشرية في فرنسا


* يستخدم المقال عنوان قصة يحيى الطاهر عبد الله “الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة”.

الكتابات الكاملة by يحيى الطاهر عبد الله | Goodreads

عن د. أيمن بكر

حاصل على الدكتوراة في جامعة القاهرة، أستاذ الأدب والنقد والدراسات الثقافية في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت. ورئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية. له عدة كتب في النقد الأدبي والثقافي منها السرد في مقامات الهمذاني (1998)، وتشكلات الوعي وجماليات القصة (2002)، وقصيدة النثر العربية (2009)، انفتاح النص النقدي، بالإضافة إلى مؤلفاته الشعرية مثل ديوان «رباعيات» بالعامية المصرية، والروائية مثل «الغابة». فاز بكر ٢٠٢١ بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى عن كتاب بعنوان: الطقوسية، السردية، المبالغة، نحو نظرية للشعر العربي الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *